"السنبلتين"
يفتح الباب ليجتاز الممر الطويل الذي يوصله إلى باب غرفته، يدير المفتاح بصعوبة، ليستقر به الحال على كرسيه المواجه لمكتبه، المثقل بركام من الأوراق المكتوبة وغير المكتوبة، وقبل أن يفتش عن الورقة التي تحمل آخر قصيدة بدأها الأسبوع الماضي، يلفت انتباهه سنبلتان معقودتان بخيط حريري مزركش، وقد وضعت بعناية على وجه القصيدة التي يرغب في مواصلة كتابتها ونقحها.
حدق في السنبلتين ولم يجرؤ على مسهما... ردد مع نفسه أكثر من مرة: - "سنبلتان معقودتان بخيط وبعناية فوق مكتبي؟!"
دفن وجهه بين كفيه، وسرح به خياله وجال به في القرية، بطرقها وأنهارها، ليستقر به في الحقول مصدر السنابل، ومصدر إلهاماته الأدبية.
عاد من تخيلاته ليواجه السنبلتين في وضعهما المقصود المريب. شمر... أراد أن يواصل الكتابة ولكنه تردد فالسنبلتان جاثمتان على مسودة قصيدته... في هذه المرة استعد ليواجه الموقف، فأصبح الناقد الذي يحاول أن يؤول الرموز ويعود بها إلى الواقع! أخذ ورقة وقلما وانخرط في عالم التأويلات.
- "السنبلتان: رمز للعطاء، مرتكز من مرتكزات الحياة، تحمل بذورا لسنابل أخرى. السنبلتان: متكاملتان، مكثرتان لما ينفع البشرية. الخيط العاقد بينهما: المودة، الوفاق، وحدة المصالح..."
عادت به التخيلات إلى حيث كان سابقا: تذكر تجواله في حقول عمه، حقول فسيحة تحف بها الورود والأشجار الباسقة التي تأوي إليها أصناف الطيور الشادية بما يتحف السمع ويلهم الشعر والنثر... ولكن هيهات. هيهات أن يكتمل جمال وروعة المشهد في غياب شمس العذراء، ابنة العم الكريمة، تجتاز بعض الحقل، تشبه الغزالة الشاردة. تسير تارة وأخرى تتوقف، فتقطف زهرة أو أكثر إن كان الفصل ربيعا، أو تحصد سنابل إن كان الفصل صيفا، أو تجمع حطبا إن كان الفصل شتاءا.
شمس، جزء من هذه اللوحات لشعري ونثري، بحضورها أعيش حالة من خلجات الأحاسيس المتنوعة، فتجعلني أسبح من خلق وأبدع.
أعود إلى عالم مكتبي، ألمح السنبلتين فأجد في الأولى نفسي وأجد في الثانية شمسا، وأجد في الخيط العاقد بينهما تلك المودة التي تحفها العفة والصدق في المشاعر. إنهما سنبلتان تتحدثان بلسان أمي، تقولان: - "ذي شمس وذي أنت، وآن الأوان أن يعقد بينكما ما يعقد بين الطاهر الصادق والطاهرة الصادقة.