هل يجعلنا الإنترنت أذكى .. أم أغبى ؟؟
4 وقت القراءة
الكثير
منا يظن أنه مع الإنترنت سنزداد ذكاءً، لأن أية معلومة مطلوبة ستكون في
متناول اليد دون عناء.. فهل هذا صحيح؟ ما خطورة الإنترنت على خبراتنا
العقلية ؟
ما يجب أن يعلمه كل مستخدم إنترنت
ما يجب أن يعلمه كل مستخدم إنترنت
لا
أعلم إن جال في بال الرومان القدامى يوماً تصوراً أو تخيلاً –ولو كان
مستقبلياً- عن شبكة الإنترنت، ذلك أننا إن أزحنا التراب عن 2000 سنة خلت
نجد أن أحد فلاسفتهم "الفيلسوف سينيكا Seneca" استطاع أن يوصّف المصيبة التي نحن فيها مع هذه الشبكة العنكبوتية بعبارة رائعة وهي
“ To be everywhere is to be nowhere “
" أن تكون في كل مكان يعني أن لا تكون في أي مكان "
" أن تكون في كل مكان يعني أن لا تكون في أي مكان "
لعمري
إنه توصيف رائع ودقيق لما نحن فيه الآن من ما يظهر كرخاء معرفي سيؤدي بنا
إلى افتقاد القدرات الدماغية البحثية والاستنتاجية العميقة إذ باتت عبئاً
علينا لا نستخدمه ولا يلزمنا، وما أهميته إن كانت بضع كبسات على العم غوغل
كافية لتضعه في هامش حياتنا؟ ها هو الإنترنت يضع كمّاً هائلاً من المعلومات
والبيانات رهن نقرات أصابعنا، وعلى عكس ما يُمكن أن يتوقع المرء، فإن
الوصول السهل اليسير إلى أية معلومة يجعل منا أشخاصاً مبعثرين سطحيين إزاء
الإلهاء والمقاطعات التي تبزغ مع سهولة الوصول، تلك التي "تخدمنا" بها
الشبكة العنكبوتية العالمية. بتّ أرى العديد من الطلاب الدارسين (وبالأخص
من يحتاج إلى الإنترنت والحاسوب في تحصيله العلمي) قد انقسم كل واحد منهم
إلى نصفين، نصف يبحث به عن المعلومة المرادة ونصف يتوه بين صفحات الفيسبوك
والدردشات وغيرها من الملهّيات، هذا إن اعتبرنا أن النسبة 50-50 ولم تصل
إلى الطامة التي معها ينسى معلومته المرادة ويتفرغ تماماً للدردشة والتواصل
الاجتماعي مثلاً؛ حتى وإن حصل على المعلومة فغالباً ما ستكون جاهزة مجهزة
لا يبذل فيها شيئاً من الاستدلال أو الاستنباط أو التفكير العميق إلا النذر
اليسير، ومن منا سيصبح طباخاً في حال قُدمت له كل طبخة دون عناء؟؟؟ لن
يكون له إلا أن يمسي مستهلكاً لا أكثر.
في
الحقيقة إن الصورة المنبثقة عمّا دار من أبحاث لهي صورة مقلقة لكل من
يقدّر أهمية التعمّق في التفكير البشري بدلاً عن السطحية والتفكير السريع
الهيّن، حيث تخبرنا الدراسات المُجرَيَة أن من يقرأ النصوص المرصّعة
بالروابط التشعّبية يفهم قدراً أقل إن قورن بذلك الذي يلتهم الكتب
التقليدية الخطّية، ومن يشاهد العروض المفعمة بالوسائط المتعددة لا يتذكر
منها الكثير أمام من يستقبل المعلومات بأسلوب أكثر رزانةً وتركيز، ناهيك عن
أن المقاطعات المتكررة من قبل الإشعارات والرسائل الإلكترونية وغيرها تقلل
من سوية الفهم والاستيعاب لغياب التركيز، فتناول عدة مهام في وقت واحد
يجعلنا أقل إبداعاً وتألقاً عن الحالة التي معها نعنى بتولّي مهمة واحدة في
كل مرة.
لا
يخفى على أحد أن السبب الرئيس في كل تلك السلبيات تشتيت الانتباه بين عدة
أمور، فالتركيز الذهني شرط واجب لإغناء الفكر والذاكرة، ذلك أننا عندما
نتلقى معلومة جديدة ينبغي أن يتم ربطها بشكل مهيكل ونافع مع المعرفة
المخزنة أصلاً في الدماغ وفقاً لـEric Kandel –
عالم الأعصاب الفائز بجائزة نوبل- وهذا كله يكون بالتركيز والانتباه لنصل
إلى ترابطات ذهنية بالغة الأهمية لإتقان المفاهيم المعقّدة.
عندما
نكون على الإنترنت يزداد تشتيتنا بشكل يمنع الذهن من صياغة الترابطات
العصبية القوية التي يتأتّى عنها التفكير العميق المتميّز، فكل ما نستقبله
ليس إلا بضع معلومات منفصلة ترقد هنيهة في الذاكرة قصيرة الأمد من ثم تتبخر
وكأن شيئاً لم يكن! فإن بعض الأنشطة التي تمارسها على حاسبك (كالألعاب
الفيديوية مثلاً) تسرّع عملية نقل التركيز من أمر لآخر (بحسب إحدى عالمات
النفس التنمويّات وهي Particia Greenfield) ولكنها في أفضل حالاتها تؤدي إلى تفكير سطحي تلقائي لا يمتّ للصرامة والدقّة بصلة.
لا
تكمن الخطورة في ما أسلفناه فحسب، بل في الشخص الذي يجعلنا الإنترنت على
شاكلته، ذلك أن المشكلة لا تزول بمجرد إطفاء شاشة الحاسب أو الجوال، بل إن
البنية الخلوية للدماغ الخاص بنا تتأثر بما نعتمد عليه من أدوات في البحث
عن المعلومة وتخزينها ومشاركتها، أي وبحسب عالم الأعصاب الرائد Michael Merzenich
فإن أدمغتنا تخضع إلى إعادة بناء كليّة بوساطة الويب وما يرافقه من وسائط،
وأما العواقب فقد تكون مميتة وفقاً لشاهدنا نفسه؛ فيُضْحِي كلٌّ منّا
شخصاً سطحياً سهل التشتت يفقد تركيزه مع كل فرصة، لا سلطان له على انتباهه
وتركيزه ولاخبرة في التمييز بين المعلومات الهامة والأمور التافهة؛ وهذا ما
أكدته مختبرات جامعة ستانفورد Stanford عندما تفاجأ الباحثون (بقيادة Clifford Nass) بمثل تلك النتيجة .
إذاً
صفوة الأمر أن هذا خطر يلوح في الأفق، خطر نفقد معه تفكيرنا المعمق المركز
على حساب السرعة واليسر، فنحن الآن في مواجهة مع تشتيت جمّ لم يضطر
أسلافنا يوماً إلى مواجهة مثله، هل سنعود إلى صديقنا العتيق بصفحاته
المطبوعة وكلماته الخطية التي تعزز تركيزنا بدلاً عن شاشةٍ
أُثقِلَ كاهِلُها بالبيانات والوسائط السريعة، والتي في إراحتها لنا تطفىء
بصيصاً من دونه لن تتقد نار الفكر في أوجها ؟؟؟...